الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/وقال ـ أيضًا: قال الله تعالى: ثم جعل للتقوي فائدتين: أن يجعل له مخرجا، وأن يرزقه من / حيث لا يحتسب. والمخرج هو موضع الخروج، وهو الخروج، وإنما يطلب الخروج من الضيق والشدة، وهذا هو الفرج والنصر والرزق، فَبَين أن فيها النصر والرزق، كما قال: وأما التوكل فَبَين أن الله حسبه، أي: كافيه، وفي هذا بيان التوكل علي الله من حيث أن الله يكفي المتوكل عليه، كما قال:
و فأجاب: الحمد لله، قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وغيره من الصحابة والتابعين ـ رضي الله عنهم : التوبة النصوح: أن يتوب من الذنب ثم لا يعود إليه، و(نصوح) هي صفة للتوبة، وهي مشتقة من النصح والنصيحة. وأصل ذلك هو الخُلُوص. يقال: فلان ينصح لفلان، إذا كان يريد له الخير إرادة خالصة لا غش فيها، وفلان يغشه، إذا كان باطنه يريد السوء، وهو يظهر إرادة الخير كالدرهم المغشوش، ومنه قوله تعالى: فإن أصل الدين هو حُسْن النية، وإخلاص القصد؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لايغِلُّ عليهن قلبُ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم، تحيط من ورائهم) أي: هذه الخصال الثلاث لايحقد عليها قلب مسلم بل يحبها ويرضاها. فالتوبة النصوح: هي الخالصة من كل غش، وإذا كانت كذلك كائنة فإن العبد إنما يعود إلى الذنب لبقايا في نفسه، فمن خرج من قلبه الشبهة والشهوة لم يعد إلى الذنب، فهذه التوبة النصوح، وهي واجبة بما أمر الله ـ تعالى، ولو تاب العبد ثم عاد إلى الذنب، قَبِلَ الله توبته الأولي، ثم إذا عاد استحق العقوبة، فإن تاب، تاب الله عليه أيضًا. ولايجوز للمسلم إذا تاب، ثم عاد أن يصِرَّ، بل يتوب، ولو عاد في اليوم مائة مرة، فقد روي الإمام أحمد في مسنده، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب العبد المفتَّن التواب)، وفي حديث آخر: (لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار)، وفي حديث آخر: (ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم مائة مرة). / ومن قال من الجهال: إن [نصوح] اسم رجل كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أُمِر الناس أن يتوبوا كتوبته، فهذا رجل مفتر كذاب، جاهل بالحديث والتفسير، جاهل باللغة ومعاني القرآن، فإن هذا امرؤ لم يخلقه الله تعالى، ولا كان في المتقدمين أحد اسمه نصوح، ولا ذكر هذه القصة أحد من أهل العلم، ولو كان كما زعم الجاهل، لقيل: توبوا إلى الله تَوْبةَ نصوح، وإنما قال: {تَوْبَةً نَّصُوحًا} والنصوح: هو التائب. ومن قال: إن المراد بهذه الآية رجل، أو امرأة اسمه نصوح، وإن كان علي عهد عيسي أو غيره، فإنه كاذب، يجب أن يتوب من هذه، فإن لم يتب وجبت عقوبته بإجماع المسلمين. والله أعلم.
وقال رَحِمهُ الله تعالى : أحدها: أنـه خالق لها، والخلق هـو الإبـداع بتقـدير، فتضمن تقـديرها في العلم قبـل تكوينها. الثاني: أنه مستلزم للإرادة والمشيئة؛ فيلزم تصور المراد. وهذه الطريقة المشهورة عند أكثر أهل الكلام. الثالث: أنها صادرة عنه، وهو سببها التام، والعلم بالأصل يوجب العلم بالفرع، فعلمه بنفسه، يستلزم علم كل ما يصدر عنه. الرابع: أنه لطيف يدرك الدقيق، خبير يدرك الخفي، وهذا هو المقتضي للعلم بالأشياء، فيجب وجود المقتضي لوجود السبب التام.
وقال شيخ الإِسلاَم ـ رَحِمهُ الله : سورة [ن]: هي سورة [الخُلُقِ]، الذي هو جماع الدين الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى فيها: وجمع بعض الزنادقة بينهما في قوله: مــا الأَمْـرُ إلا نَسْقٌ واحـــد ** مـا فيـه مــــن مـدحٍ ولا ذمِّ وإنمــا العـادة قـد خُصِّـصَت ** والطبــــع والشارع بالحـكــمِ [ن]: أقسم ـ سبحانه ـ بالقلم وما يسطرون؛فإن القلم به يكون الكتاب الساطر للكلام، المتضمن للأمر والنهي والإرادة، والعلم المحيط بكل شيء، فالإقسام وقع بقلم التقدير ومسطوره، فتضمن أمرين عظيمين تُنَاسِب المقْسَم عليه: أحدهما: الإحاطة بالحوادث قبل كونها، وأن من علم بالشيء قبل كونه أبلغ ممن علمه بعد كونه، فإخباره عنه أحكم وأصدق. الثاني: أن حصوله في الكتابة والتقدير يتضمن حصوله في الكلام والقول والعلم من غير عكس؛ فإقسامه بآخر المراتب العلمية يتضمن أولها من غير عكس، وذلك غاية المعرفة واستقرار العلم إذا صار مكتوبا. فليس كل معلوم مقولا، ولا كل مقول مكتوبا، وهذا يبين لك حكمة الإخبار عن القدر السابق بالكتاب دون الكلام فقط، أو دون العلم فقط. والمقْسَم عليه ثلاث جمل: / الأول: أن يكون باطلا ولا عقل له، فهذا مجنون لا ذم عليه ولا يتبع. الثاني: أن يكون باطلا وله عقل، فهذا يستحق الذم والعقاب. الثالث: أن يكون حقًا مع العقل، فنفي عنه الجنون أوَّلا، ثم أثبت له الأجر الدائم الذي هو ضد العقاب، ثم بين أنه علي خلق عظيم، وذلك يبين عِظَمَ الحق الذي هو عليه بعد أن نفي عنه البطلان. وأيضًا، فالناس نوعان: إما معذب، وإما سليم منه. والسليم ثلاثة أقسام: إما غير مكلف، وإما مكلف قد عمل صالحـًا: مقتصدًا، وإما سابق بالخيرات. فجعل القسم مرتبًا علي الأحوال الثلاثة ليبين أنه أفضل قِسْم السعداء، وهذا غاية كمال السابقين بالخيرات، وهذا تركيب بديع في غاية الإحكام. ثم قال: أحدهما: أنه نهاه عن طاعة هذين الضربين، فكان فيه فوائد: منها: أن النهي عن طاعة المرء، نهي عن التشبه به بالأولى، فلا / يطاع المكذب والحلاف، ولا يعمل بمثل عملهما، كقوله: ومنها: أن ذلك أبلغ في الإكرام والاحترام، فإن قوله: لاتكذب، ولا تحلف، ولا تشتم، ولا تهمز، ليس هو مثل قوله: لا تطع من يكون متلبسًا بهذه الأخلاق؛ لما فيه من تشريفه وبراءته. ومنها: أن الأخلاق مكتسبة بالمعاشرة؛ ففيه تحذير عن اكتساب شيء من أخلاقهم بالمخالطة لهم، فليأخذ حذره، فإنه محتاج إلى مخالطتهم لأجل دعوتهم إلى الله ـ تعالى. ومنها: أنهم يبْدُون مصالح فيما يأمرون به، فلا تطع من كان هكذا ولو أبداها، فإن الباعث لهم علي ما يأمرون به هو ما في نفوسهم من الجهل والظلم، وإذا كان الأصل المقْتَضِي للأمر فاسدًا، لم يقبل من الآمر، فإن الأمر مداره علي العلم بالمصلحة وإرادتها، فإذا كان جاهلا لم يعلم المصلحة، وإذا كان الخلق فاسدًا لم يردها؛ وهذا معني بليغ. / الأصل الثاني: أنه ذكر قسمين: المكذبين، وذوي الأخلاق الفاسدة، وذلك لوجوه: أحدها: أن المأمور به هو الإيمان والعمل الصالح، فضده التكذيب والعمل الفاسد. والثاني: أن المؤمنين مأمورون بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، فكما أنا مأمورون بقبول هذه الوصية والإيصاء بها، فقد نهينا عن قبول ضدها، وهو التكذيب بالحق والترك للصبر، فإن هذه الأخلاق إنما تحصل لعدم الصبر، والصبر ضابط الأخلاق المأمور بها؛ ولهذا ختم السورة به، وقال: الأصل الثالث: أن صلاح الإنسان في العلم النافع والعمل الصالح، وهو الكَلِم الطيب الذي يصعد إلى الله، والعمل الصالح جماع العدل، وجماع ما نهي الله عنه الناس هو الظلم، كما قرر في غير هذا، قال تعالى: وقوله: ثم قال: / وأما الهماز المشاء بنميم: فالهمز أقوي من اللمز وأشد ـ سواء كان همز الصوت أو همز حركة ـ ومنه: [الهَمْزةُ]: وهي نبرة من الحلق مثل التهوع، ومنه الهمز بالعقب، كما في حديث زمزم: (أنه هَمَزَ جبريل بعقبه) والفعال: مبالغة في الفاعل، فالهماز: المبالغ في العيب نوعا وقدرًا. القدرة من صورة اللفظ، وهو الفعال، والنوع من مادة اللفظ وهو الهمزة، والمشاء بنميم هو من العيب، ولكنه عيب في القفا، فهو عيب الضعيف العاجز، فذكر العياب بالقوة، والعياب بالضعفِ، والعياب في مشهد، والعياب في مغيب. وأما وأما العُتُلّ الزَّنيم: فهو الجبار، الفظ الغليظ، الذي قد صار من شدة تجبره وغلظه معروفا بالشر، مشهورًا به، له زَنَمة كزَنَمَة الشاة. ويشبه ـ والله أعلم ـ أن يكون الحلاف المهين الهماز المشاء بنميم من جنس واحد، وهو في الأقوال وما يتبعها من الأفعال، والمنَّاع المعتدي الأثيم العتل الزنيم من جنس، وهو في الأفعال وما يتبعها من الأقوال. فالأول: الغالب على جانب الأعراض، والثاني: الغالب على / جانب الحقوق في الأحوال والمنافع ونحو ذلك.ووصفه بالظلم والبخل والكبر، كما في قوله: وقوله: وأما ظهور ما في قلوبهم علي وجوههم فقد يكون وقد لا يكون، ودل علي أن ظهور ما في باطن الإنسان علي فلتات لسانه أقوي من ظهوره علي صَفْحَات وجهه؛ لأن اللسان ترجمان القلب، فإظهاره لما أَكَنَّه أَوكَد؛ ولأن دلالة اللسان قالية، ودلالة الوجه حالية، والقول أجمع وأوسع للمعاني التي في القلب من الحال؛ ولهذا فَضَّلَ من فَضَّل ـ كابن قتيبة وغيره ـ السمعَ علي البصر. / والتحقيق أن السمع أوسع،والبصر أخص وأرفع، وإن كان إدراك السمع أكثر، فإدراك البصر أكمل؛ ولهذا أقسم أنه لابد أن يدركهم بسمعه، وأما إدراكه إياهم بالبصر بسيماهم فقد يكون وقد لا يكون. فأخبر ـ سبحانه ـ أنه لابد أن يسِمَ صاحب هذه الأخلاق الخبيثة علي خرطومه، وهو أنفه الذي هو عضوه البارز، الذي يسبق البصر إليه عند مشاهدته؛ لتكون السيما ظاهرة من أول ما يري، وهذا ظاهر في الفَجَرَة الظَّلَمَة، الذين وَدَعَهم الناس اتقاء شرهم وفحشهم؛ فإن لهم سيما من شر يعرفون بها. وكذلك الفسقة وأهل الريب. وقوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} إلخ [القلم: 17]، فيه بيان حال البخلاء، وما يعاقبون به في الدنيا قبل الآخرة من تلف الأموال، إما إغراقا، وإما إحراقا، وإما نهبًا، وإما مصادرة، وإما في شهوات الغي، وإما في غير ذلك مما يعاقب به البخلاء، الذين يمنعون الحق. وليس إقدام في صنايع المعروف، وهو قوله: {مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} [القلم: 12]، وهو أحد نوعي الظلم، كما أخبروا به عن نفوسهم في قولهم: وتضمن عقوبة الظالم المانع للحق،أو متعدي الحق،كما يعاقب الله مانع الزكاة وهو مناع الخير، وآكل الربا والميسِر:الذي هو أكل المال بالباطل، وكل منهما أخبر الله في كتابه أنه يعاقبه بنقيض / قصده،فهنا:أخبر بعقوبة تارك الحقوق،وفي البقرة: بعقوبة المرابي، وهذه العقوبة تتناول من يترك هذا الواجب، وفعل هذا المحرم من المحتالين،كما أخبر في هذه السورة،وكما هو المشَاهَد في أهل منع الحقوق المالية،والحِيل الربوية،من العقوبات والمثلات. فإنه ـ سبحانه ـ إذا أنعم علي عبد بباب من الخير، وأمره بالإنفاق فيه فبخل، عاقبه بباب من الشر، يذهب فيه أضعاف ما بخل به، وعقوبته في الآخرة مدَّخَرة، ثم أتْبَعَ ذلك بعقوبة المتكبر الذي هو من نوع العتل الزنيم، الذي يدعَي إلى السجود والطاعة فيأبي، ففيها عقوبة تارك الصلاة، وتارك الزكاة؛ فتارك الصلاة: هو المعتدي الأثيم، العتل الزنيم. وتارك الزكاة: الظالم البخيل. وختمها بالأمر بالصبر، الذي هو جماع الخلق العظيم في قوله: وما ذكره في قصة أهل الجنة من أمر السخاء والجود، وما ذكره هنا من الحلم والصبر: هو جماع الخلق الحسن، كما جمع بينهما في قوله: بحلمٍ وَبَذْلٍ سَادَ في قومه الفتى ** وَكَـونُـك إيـــاه عَلَيـكَ يسِــيرُ فالإحسان إلى الناس بالمال والمنفعة واحتمال أذاهم، كالسخاء المحمود، كما جمع بينهما في قوله:
/ وقال: هذه تفسير آيات أشكلت حتي لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها. منها: قوله: {بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 6]، حَارَ فيها كثير، والصواب المأثور عن السلف؛ قال مجاهد: الشيطان. وقال الحسن: هم أولي بالشيطان من نبي الله. فَبَين المراد، فإنه يتكلم علي اللفظ كعادة السلف في الاختصار مع البلاغة وفهم المعني. وقال الضحاك: المجنون، فإن من كان به الشيطان ففيه الجنون. وعن الحسن: الضال. وذلك أنهم لم يريدوا بالمجنون الذي يخرق ثيابه ويهذي، بل لأن النبي صلى الله عليه وسلم خالف أهل العقل في نظرهم، كما يقال: ما لفلان عَقْلٌ. ومثل هذا رموا به أتباع الأنبياء كقوله: والذين لم يفهموا هذا قالوا: الباء: زائدة، قاله ابن قتيبة وغيره.وهذا كثير كقوله:
/وقـال: ولجماعة من الفضلاء كلام في قوله تعالى: ثم قيل: {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 36]، فَعُلِم أنها طامة بحيث توجب الفرار / مما لايفر منهم إلا في غاية الشدة، وهي الزوجة والبنون، ولفظ صاحبته أحسن من زوجته. قلت: فهذا في الخبر، نظيره في الأمر قوله: ولهذا لما ذكر في جزاء الصيد الأعلي ابتداء كان لنا في ترتيبه روايتان، وإذا نصرنا المشهور قلنا: قدم فيه الأعلي؛ لأن الأدني بقدرته في قوله: ولهذا لما ابتدأ بالأثقل في حدود المحاربين لم يكن عندنا علي التخيير، ولا علي الترتيب، بل بحسب الجرائم، وليس في لفظ الآية ما يقتضي التخيير كما يتوهمه طائفة من الناس، فإنه لم يقل الواجب أو الجزاء هذا / أو هذا أو هذا، كما قال: فكفارته هذا أو هذا أو هذا، وكما قال: وقد تقرر أن مثل هذا الخطاب يثبت للمذكور ما نفاه عن غيره، فلما نفي الجواز لغير الأصناف، أثبت الجواز لا الوجوب ولا الاستحقاق، كما فهمه من اعتقد وجوب الاستيعاب من ظاهر الخطاب، وهنا: نفي أن يكون ما سوي أحد هذه جزاء، فأثبت أن يكون جزاء المحارب أحد هذه العقوبات. والمحاربون جملة ليسوا واحدًا، فظهر الفرق بين هذه الآية وبين الآيتين من وجوه: أحدها: أن المحاربين ذكروا باسم الجمع، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي توزيع الأفراد علي الأفراد، فلو قيل: جزاء المعتدين إما القتل وإما القطع، وإما الجلد، وإما الصلب، وإما الحبس، لم يقتض هذا التخيير في كل معتد بين هذه العقوبات، بل توزيع العقوبات علي أنواعهم، كذلك إذا قيل: جزاء المحاربين كذا، أو كذا، أو كذا، أو كذا، بخلاف قوله: {فكفارته}، وقوله: / الثاني: أن المقصود نفي جواز ما سوي، وإثبات ضده، وهي جواز المذكور في الجملة، وذلك أعم من أن يكون مخيرًا أو معينًا، بخلاف ما إذا لم يكن المقصود إلا مجرد الإثبات، فإن إثباته بصيغة التخيير يدل عليه. وهذا معروف في مواد الإثبات المحض، أو مواد الحصر، كما قال صلى الله عليه وسلم للخَصْم المدعي: (شاهداك أو يمينه)، وفي لفظ: (ليس لك منه إلا ذلك)، فحصر طريق الحق، وليس الغرض التخيير. وكذلك يقال: الواجب في القتل القصاص أو الدية، ولا تصح الصلاة إلا بوضوء أو تيمم، ولا بد يوم الجمعة من الظهر أو الجمعة، ولا يترك في دار الإسلام إلا مسلم أو معاهد، وسبب ذلك: أنه إذا كان بعض المقصود الذي دل عليه اللفظ نفس ما سوي الأمور المذكورة، كان مدلوله إثباتا يقتضي النفي، وهو الوجود المشترك من هذه الأمور، والقدر المشترك بينهما أعم من أن يكون معينا أو مخيرًا. وأما إذا أثبتت ابتداء فلو لم تكن مخيرة بل معينة، ولم يدل اللفظ عليه كان تلبيسًا. الوجه الثالث: وهو لطيف أن يقال: مفهوم [أو] إثبات التقسيم المطلق، كما قلنا: إن الواو مفهومها التشريك المطلق بين المعطوف والمعطوف عليه، فأما الترتيب: فلا ينفيه ولا يثبته؛ إذ الدال / علي مجرد المشترك لايدل علي المميز. فكذلك [أو]: هي للتقسيم المطلق، وهو ثبوت أحد الأمرين مطلقا، وذلك أعم من أن يثبت علي سبيل التخيير بينه وبين الآخر، أو علي سبيل الترتيب، أو علي سبيل التوزيع، وهو ثبوت هذا في حال، وهذا في حال، كما أنهم قالوا: هي في الطلب يراد بها الإباحة تارة، كقولهم: تَعَلَّم النحو أو الفقه، والتخيير أخري، كقولهم: كل السمك أو اللبن، وأرادوا بالإباحة جواز الجمع، وهي في نفسها تثبت القدر المشترك، وهو أحد الاثنين. إما مع إباحة الآخر أو حظره، فلا تدل عليه بنفسها، بل من جهة المادة الخاصة؛ ولهذا جمعنا بين القتل والصلب، وبينه وبين القطع علي رواية، فإن [أو] لا تنفي ذلك، فإذا كان حرف أو يدل علي مجرد إثبات أحد المذكورات، فهنا مسلكان: أحدهما: أن يقال: إذا كانت في مادة الإيجاب أفادت التخيير، وإذا كانت في مادة الجواز أفادت القدر المشترك، كما هو مشهور عن النحاة المتكلمين في معاني الحروف أنهم يقولون: يراد بها؛ تارة: الإذن في أحد الشيئين مع حظر الآخر، وتارة: الإذن في أحدهما وإن ضم إليه الآخر، كما ذكروه من الأمثلة. وحينئذٍ، فهذه الآية في مادة الجواز؛ لأن المنفي هو الجواز، فيكون / المُثْبَت هو الجواز كما ذكرناه في آية الصدقات، بخلاف آية الكفارة، فإنها في مادة الوجوب. المسلك الثاني: أن يقال: لا فرق بين المادتين، الجواز والوجوب، بل وفي الوجوب قد يباح الجمع، كما لو كفر بالجميع مع الغني، لكن يقال: دلالتها في الجميع علي التفريق المطلق ضد دلالة [الواو]. ثم إن لم يدل دليل علي ترتيب ولا تعيين، جاز فعل كل واحد من الخصال، لعدم ما يدل علي التعيين والترتيب، لا للدليل المنافي لذلك، كما في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]، فإن الرقبة المعينة يجزي عتقها، كثبوت القدر المشترك فيها، وعدم ما يوجب المعين، لا لدليل دَلَّ علي نفس المعين، وإن دَلَّ دليل علي التعيين، والترتيب، قلنا به، كما نقول بتقييد المطلق، وليس تقييد المطلق رفعًا لظاهر اللفظ، بل ضم حكم آخر إليه، وهذا مسلك حسن في هذا الموضع ونظائره، فإنه يجب الفرق بين ما يثبته اللفظ وبين ما ينفيه، فإذا قلنا في المحاربين بالتعيين لدليل خبري أو قياسي، كان كالقول بالترتيب في الوضوء، والأيمان في الرقبة ونحوهما.
وقال شيخ الإسلاَم ـ رَحِمهُ الله: قوله: فأما التعليل بهذا وحده في الصبي فلا، والآية تقتضي ذم قتل كل من لا ذنب له من صغير وكبير، وسؤالها توبيخ قاتلها، وقوله في السورة:
في قوله تعالى: فهنا أربع إرادات: إرادة البيان، وإرادة المشيئة، وإرادة الفعل، وإرادة الإعانة. والله أعلم.
|